سارية العلم

كانت السارية تقف شامخة في وسط الميدان العام، تحمل على كتفيها علم الدولة الذي يرفرف في الهواء بفخر. كانت تشعر بالاعتزاز، كيف لا وهي تحمل رمزاً يعبر عن تاريخ وحضارة أمة بأكملها؟ حولها يلعب الأطفال بضحكاتهم البريئة، والسياح يلتقطون صوراً تذكارية بالقرب منها، حتى الكلاب تجد في ظلها مكاناً لتترك بصمتها. ورغم ذلك، لم تكن تمانع، فقد كانت جزءاً من يوميات الميدان.

كانت السارية تشعر بدفء الشمس في الصباح وبقشعريرة البرودة في الليل. حتى جاء الشتاء في تلك السنة، وجاءت معه العواصف العاتية. الرياح اشتدت والسماء كانت مليئة بالبرق والرعد. اهتزت السارية بعنف وشعرت بالخوف للمرة الأولى في حياتها. تمزق العلم وطار بعيداً مع الرياح، وصرخت السارية في صمت؛ كأنها أم فقدت ابنها. ضربها البرق لكنها لم تشعر به، كانت غارقة في ألم الفقد.

في صباح اليوم التالي، انقشعت الغيوم وعادت العصافير لتغرد. جاء موظفو البلدية حاملين علماً جديداً، ألوانه زاهية ومشرقة. شعرت السارية بالفرح وهي تستقبل العلم الجديد، وابتسمت عندما تسلق عليها العامل ولفّ ذراعيه حولها لتركيب العلم. الأطفال عادوا للعب، فتاة صغيرة اختبأت خلفها، واحتفظت السارية بسرّها، شعرت وكأنها أصبحت أوسع، قادرة على حماية هذه الضحكات المكبوتة.

مرت السنوات، عشر أو عشرون، وحدث ما لم تتوقعه السارية؛ قامت حرب أهلية. ساحة الميدان التي كانت تعج بالضحكات أصبحت تغلي بالأصوات الغاضبة. وجوه الناس أصبحت سوداء بالحقد والكراهية، وأصوات مكبرات الصوت تملأ المكان. شعرت السارية بالخوف، أرادت سماع الضحكات مرة أخرى لكنها لم تجدها. رجل مفتول العضلات، لحيته حمراء كالنار، اقترب منها وبدأ يهزها بعنف. حاولت السارية المقاومة، لكنها كانت عاجزة. تسلق الرجل عليها وسحب العلم، أحرقه أمام عينيها، وداسه بقدميه. شعرت بالمهانة، شعرت وكأنها تُغتصب.

عام كامل مرّ وهي تحمل علماً جديداً، ثقيلاً وثقيلاً جداً. ثم جاء قرار دولي بالتدخل لتحرير البلد من الفوضى. اشتعلت المعركة حولها، الميدان أصبح ساحة حرب. اختبأ جندي خلفها، شعرت بأنها رقيقة كخيط حرير. طلقات المدافع أصابتها وأصابت الجندي خلفها. سقط الرجل ومات، شعرت بحرارة الدماء التي سرت تحتها وكأنها نار تحرق قلبها الحديدي.

انتهت الحرب، ورفعت القوات الغازية علماً أجنبياً عليها. شعرت بغربة لا توصف، كأن هذا العلم دخيل لا يتحدث لغتها. مرّت سنوات وهي عاجزة عن التكيف معه، لكنها استمرت في التحمل.

وفي يوم صيفي، جاء الجنود ورجال ببدلات سوداء. اقترب أحدهم ووضع يده على جسدها البارد. تم إنزال العلم الأجنبي، ورفع علم الدولة من جديد. شعرت السارية وكأنها تحلق في السماء من شدة الفرح، لقد عاد توأم روحها! نسيت كل سنوات الألم، نسيت الحروب والجراح.

لكن الفرح لم يدم طويلاً. في اليوم التالي، جاءت رافعة ضخمة. شعرت السارية بالخوف مجدداً. لماذا؟ هل هناك حرب أخرى؟ سلاسل حديدية ضخمة التفت حولها، وشعرت بالخنق. تم سحبها ببطء، لم تستطع المقاومة، فقد كانت متهالكة. أُنزلت على شاحنة طويلة، ورأت في مكانها سارية جديدة، مشرقة، بيضاء، تتسلم دورها في حمل العلم.

لم تفهم السارية شيئاً. كل ما فهمته أنها لم تعد مرغوبة. بعد سنوات طويلة من التحمل والصمود، أصبحت قطعة حديد صدئة ملقاة في ساحة البلدية، تنتظر أن يتم صهرها في مصنع تدوير الحديد… لتتحول إلى شيء آخر، ربما إلى شيء أفضل، أو ربما إلى لا شيء على الإطلاق.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Email